تعلمنا في المراحل الأولى من رحلتنا المدرسية في كتب الجغرافيا أن النهر هو عبارة عن مياه عذبة صافية تستمد زرقتها من لون السماء، وكنا نستعمل اللون الأزرق للدلالة على وجود نهرٍ ما على الخريطة، ولكن ما لم نجد له تفسيراً في كتب الجغرافيا المدرسية وجدنا تفسيره في صفحات المصالح الشخصية المغطاة سياسياً، وهي الصفحات التي تحوّل معها الأزرق إلى بني، والثروة المائية الى سموم متنقلة... فعلى أعين الوزارات المعنية وعلى مرأى اهالي 54 بلدة متضررة تستمر المرامل بإطلاق العنان لمحركاتها لقضم الجبال المحاذية لمجرى نهر الليطاني، وتكمل جريمتها البيئية الموصوفة بإفراغ مخلفاتها في مجراه، ما حول مياه الليطاني الصافية الى وحولٍ بنية اللون، تقتل في طريقها ما استطاعت من الثروة السمكية، وتحرم 250 الف نسمة من مياه الشرب وآلاف الهكتارات الزراعية من الري.
يتعرض نهر الليطاني الذي يبلغ طوله 170 كلم، وتبلغ قدرته المائية تقريباً 750 مليون م3 سنوياً، نتيجة التسيب البيئي والاجتماعي والأمني الى كميات غير مسبوقة من التلوث، بسبب اجتياح المرامل ومغاسل الرمل لمجراه، وهو الاجتياح الذي يضاف الى ما سبقه من اجتياحات تحويل شبكات الصرف الصحي في بعض البلدات على مجرى النهر، ما يزيد الطين بلّة ويجعل من المتنفس المجاني الوحيد لأهالي عشرات القرى الجنوبية وباءً متنقلاً يهدد حياتهم وحياة اطفالهم، ويضع حدا للحياة السياحية على ضفاف النهر ويقضي على الثروة السمكية والنباتية في المنطقة.
تلوث واضح "أصبح النهر عبارة عن وحول، مياه الشرب مقطوعة منذ أسابيع، ومياه النهر ما عادت تصلح حتى للري" بهذه الكلمات يصف حسام زريق وهو احد اهالي بلدة شحور (احدى البلدات المتضررة من تلوث نهر الليطاني)، وعضو سابق في بلديتها، ويؤكد في حديثه لـ"البلد" أن التلوث واضح للعين المجردة وأسبابه واضحة للعلن أيضاً وهي المرامل في العيشية والطيبة التي تتخلص من مخلفاتها في مجرى النهر. ويشير الى ان المرامل في المنطقة كانت اكثر من 9 مرامل، تم أقفال عدد منها ولا تزال تعمل منها حتى اليوم ما يقارب الـ4 مرامل. فـ"تحركنا وصرختنا غير موجهة ضد احد ولا لقطع رزق احد ولكن دفاعا عن حقنا بمياه نقية ودفاعا عن المتنفس الوحيد لنا وللقرى المجاورة".
سموم متنقلة ويوضح الخبير البيئي والمائي بلال جوني أن قضية تحويل الصرف الصحي في عدد من القرى على مجرى الليطاني ليست بالجديدة، بل عمرها من عمر مد شبكات الصرف الصحي في بلدات سحمر ، يحمر ودير ميماس وتحويلها الى المجرى من دون محطات معالجة. ومؤخرا جاءت قضية المرامل والكسارات لتزيد الطين بلة وتقضي على الموسم السياحي وعلى المتنفس الوحيد لاهالي قرى ضفاف الليطاني، حتى قبل أن يبدأ. ويؤكد جوني أن نسب التلوث الحاصل لمياه النهر لا تحرم الاهالي فقط من مياه الشرب بسبب تعطل محطة ضخ المياه في الطيبة من جراء غسل الرمول على ضفاف النهر، بل هذا التلوث يقضي على الثروة النهرية، ويجعل من هذه المياه غير صالحة حتى للري، لأن الري بالمياه الملوثة سيدخل السموم الى كل بيت، وذلك عبر تناول الخضار او الفواكه المروية بتلك المياه غير الصالحة. ويؤكد جوني أن مشروع قرض البنك الدولي (خريطة الطريق لمكافحة تلوث بحيرة القرعون) الذي وافق عليه مجلس الوزراء في جلسته الاخيرة وينتظر ان يتم التوافق عليه في مجلس النواب له ان يحل جزءاً كبيراً من ازمة الصرف الصحي الذي يلوث الليطاني، لتبقى قضية المرامل التي تستدعي مخاطرها تحركا فوريا للنيابة العامة البيئية، لا سيما وأن الكارثة ستتمدّد صيفا، فعندما يقل منسوب المياه سترتفع بالمقابل نسب التلوث وما سيرافقها من انتشار امراض واوبئة سيكون الاهالي عرضة لها عبر وسائل عديدة لا يمكن حصرها.
المسبب الرئيسي يؤكد رئيس اتحاد بلديات جبل عامل علي الزين أن مشكلة المرامل بدأت بالبروز مع بداية العام 2014 ، و"بعد جولات عدة على مجرى النهر في نهاية السنة الماضية اكتشفنا ان وجود المرامل هو المسبب الرئيسي لتلوث النهر، وتابعنا الموضوع واتخذ محافظ النبطية اجراءات بهذا الاتجاه، ولكن مؤخرا اصبح التلوث مضخما ويبدو ان المرامل تتكاثر في المنطقة، وهي وان كان بعضها ليس بمحاذاة النهر ولكن مخلفاتها كلها تصب في النهر" وأدت المشكلة الى تعطل مضخات المياه في الطيبة، وهي المحطة التي توزع مياه الشرب على 54 بلدة، اي ما يزيد عن 250 الف نسمة. "اذ يتم تعطيش 250 الف نسمة لاجل بعض المنتفعين الذين يعدون على اصابع اليد، هذا بغض النظر عن التشوه الشكلي للنهر الذي تحول الى وحول، قضت على الثروة السمكية واثرت سلبا على المؤسسات السياحية الممتدة من الخردلي مرورا بالقعقعية الى القاسمية. وما يؤكد ان المرامل هي السبب الرئيس في تلوث الليطاني "نرى المياه في جسر الدلافة خالية من الوحول، بينما في الخردلي نرى نسبة الوحول كبيرة في المياه، وفي الطيبة الوحول أقل، ما يعني ان ما بين جسر الدلافة وجسر الخردلي الكمية الكبرى من التلوث وما بين الطيبة والخردلي خفت نسبة التلوث، كلما ابتعدنا عن المرامل تخف نسبة الوحول وذلك لتركز المرامل ما بين الدلافة وجسر الخردلي، فكلما ابتعدنا عن المرامل تخف نسبة الوحول". وطالب الزين باسم بلديات جبل عامل وكل بلديات مرجعيون وبنت جبيل المتضررة، الوزارات المعنية من "الطاقة البيئة، الزراعة، الداخلية والصحة" بالتحرك الفوري لوضع حد للجريمة البيئية في نهر الليطاني، مشيدا بتجاوب المدعي العام البيئي مع القضية، اذ اقفل بعض المرامل منذ ثلاثة اشهر. وعن الاجراءات التي قام بها اتحاد بلديات جبل عامل لمواجهة الازمة، يشير الزين الى ان الاتحاد في صدد ارسال كتب رسمية لكل الوزارات المعنية "لوضعها امام مسؤولياتها، مع متابعة الملف ميدانيا على الأرض، وفي ما يخص قضية الصرف الصحي ارسلنا رسائل لكل من مصلحة مياه لبنان الجنوبي والبلديات المعنية".
معركة افتراضية في المقابل تستمر "حملة سكروا المرامل" بالضغط افتراضيا في اتجاه تسليط الضوء على قضية تلوث نهر الليطاني. و"تهدف الحملة الى ايصال الصورة الكارثية التي يتعرض لها النهر لأكبر قدر ممكن من الناس ووسائل الاعلام والجمعيات البيئية وبالتالي الضغط على المعنيين لاتخاذ القرارات المناسبة لوقف الجريمة التي تمارس بحق الليطاني واهالي القرى المجاورة لمجراه" على حد تعبير مؤسس الحملة على مواقع التواصل الاجتماعي حسن زريق. الذي اكد بدوره ان حملتهم المتواضعة بعديدها الافتراضي مستمرة في معركتها حتى اقفال المرامل وفي حال التعثر سيكون لها تحركات ودعوات للتظاهر على الارض في المناطق المتضررة او امام الوزارات المعنية.
القسم : الإتحاد في الصحافة - الزيارات : 5436 - التاريخ : 16/6/2016 - الكاتب : البلد